في زاوية مظلمة من مخيمات النزوح المنسية بمديرية "عبس" في محافظة حجة (شمالي غربي اليمن)، أسدلت الطفلة "أشواق علي حسن مهاب"، ذات الأعوام السبعة، الستار على فصول حياتها الموجزة، لتتحول إلى مجرد رقم جديد في سجلات الموت الصامت.

انطفأت عينا أشواق، ليس لمرض مفاجئ أو حادث أليم، بل كان خيارًا فرضته عليها يد الجوع ومليشيا الحوثي التي تخنق اليمن منذ سنوات، في صمتٍ مريب وتواطؤ دولي مخجل.

توفيت أشواق، تاركة خلفها سريرًا خاويًا، وأمًّا مفجوعة، وأبًا أنهكه عجز اليد، لتصبح رمزًا لكل طفل يمني يصارع الموت جوعًا، في ظل حربٍ حوثية لا هوادة فيها، واقتصاد منهار، ومساعدات إنسانية تتقلص يومًا بعد آخر، ومخيمات نزوح تحوَّلت إلى بؤر للمرض واليأس.

لا تكمن المأساة في وفاة الطفلة أشواق وهي تحلم بالطعام فقط، بل في كونها مرآة تعكس واقعًا كارثيًا يواجهه ملايين اليمنيين، باتوا على شفا هاوية المجاعة؛ ففي مديرية عبس ومناطق النزوح الأخرى بمحافظة حجة، تزايدت أعداد الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي الحاد، مع غياب شبه كامل للمواد الغذائية الأساسية، ما يجعل الأطفال والنساء أكثر الفئات عرضة للموت البطيء. وفق مصادر حقوقية ومحلية تحدثت لـ"وكالة 2 ديسمبر".

في المخيم نفسه، وللأسباب ذاتها، كانت امرأة مسنة قد سبقت أشواق؛ ففي تسجيل مرئي من داخل هذا المخيم تحدث أحد السكان عن وفاة والدته جوعًا، نتيجة توقف المساعدات الغذائية، وعجز الأسرة عن توفير الحد الأدنى من الطعام.

"لم يعد لدينا شيء بعد توقف المنظمات.. لم أعد أستطيع توفير الطعام"، هكذا وصف والد أشواق ما تعرضت له طفلته في ظل نهب حوثي للمساعدات الإنسانية وسوء توزيع لها، فالكثير من الإغاثات- وفق حديث رئيس رابطة ضحايا حجور "محمد السعيدي" لـ"وكالة 2 ديسمبر"- تُصرف عبر "الواسطة" لأشخاص ليسوا بحاجة لها بينما يموت الفقير المتعفف في بيته هو وأطفاله من الجوع.

يقول "السعيدي": الأب المكلوم، الذي فقد ابنته بسبب الجوع، اضطر للتصريح بأنها ماتت بمرض، بعدما تلقى "تلقينًا" من أشخاص حاولوا تزوير الحقيقة مقابل شيء ما.

وفاة "أشواق" جوعًا حقيقة أرادت المليشيا الحوثية طمسها عبر فيديو منشور صورته مع والدها عبر ما يسمى "مكتب الشؤون الإنسانية" الذي يرأسه القيادي الحوثي المعيّن منها المدعو "علام علي فضائل".

"لم ترحم حزنه على فراق فلذة كبده في مثل هكذا واقع إنساني مؤلم، فأجبرته تحت التهديد- وهو في أيام عزائها- على الحديث بأن طفلته "توفيت نتيجة المرض والإسهال وليس الجوع".

يقول الصحفي الاستقصائي "عيسى الراجحي"، وهو أول من نشر عن الحادثة في رسالة وجهها إلى المدعو "فضائل"، إن هذا الفيديو "تسجيل تم تمثيله وتلقين كلماته مقابل شيء ما".

ويضيف: "بل وصلت حقارتهم (يقصد مليشيا الحوثي) أن يعطوا والدها (والد أشواق) دواء بعد موت الطفلة، ويطلبون منه أن يقول إنها كانت مريضة ورفضت استخدام العلاج وماتت بسبب المرض".

وينقل "الراجحي"، عن أسرة الطفلة تأكيدًا لإجبارها على تزوير الحقيقة، موضحة أن "أشخاصًا جاءوا إليهم بعد نشر قصة أشواق وطلبوا منهم تسجيل فيديو ينفي ما قاله والدها عن أسباب موتها".

هذه الواقعة- وفق ما يؤكد رئيس رابطة ضحايا حجور "محمد السعيدي" لـ"وكالة 2 ديسمبر": تكشف عن وجه آخر للمأساة، حيث لا يقتصر الجوع على القتل الصامت، بل يتعداه إلى محاولة طمس الحقيقة وتزييف الوعي، في جريمة لا تغتفر.

ويؤكد السعيدي أن "الطفلة أشواق ماتت جوعًا، لا لشيء، إلا لأن حرب مليشيا الحوثي قررت أن تترك طفولتها ضحية على هامش النسيان، هناك حيث لفظت أنفاسها الأخيرة بعدما تعب جسدها الصغير من انتظار لقمةٍ، من ماء بلا غذاء، من خيمة لا تُدفئ ولا تُطعم".

رحيل أشواق- بحسب السعيدي- "ليس حادثًا عابرًا، بل صفعة موجعة في وجه كل من يرى ويسكت، كل من يسمع ويتجاهل، كل من يرفع صوته في الخُطب بينما تُخنق الطفولة بجوعٍ بارد".

وأردف: "أشواق ليست وحدها من عانت من الجوع ثم ماتت جائعة، ففي كل خيمة هناك، طفلة تُقاوم الجوع بصمت، وأمٌّ تخبئ دموعها، وأبٌ يتوسد العجز، فيما قيادات المليشيا الحوثية- التي تدعي الانتصار للجائعين في غزة- تموت من التخمة، وتمارس أبشع مما يمارسه المحتل الإسرائيلي في غزة".

"الفرق بين غزة واليمن.. غزة يُحاصرها عدو يحتل الأرض، وفي اليمن يُحاصرنا من يرفع المصحف ويُصلي معنا، لكن كلاهما يقتل.. واحد بالبارود، والآخر بالتجويع والصمت"، يقول السعيدي، مضيفًا بحسرة: "رحلت أشواق.. وبقيت اللعنة تلاحق من شارك في موتها بالصمت أو الجريمة".

ويشير "السعيدي" إلى أن مديرية عبس، مع تفاقم الأزمة الإنسانية مرشحة خلال شهر سبتمبر المقبل، "لأن تدخل مرحلة المجاعة" جراء غياب المنظمات ونهب مليشيا الحوثي للمساعدات، وسط غياب الإعلام الذي من شأنه فضح تلك الأساليب والممارسات والمتاجرة بلقمة عيش الأبرياء.

الصحفي "الراجحي"، يشير إلى أن العديد من المخيمات في المديرية، كما هي الحال في مخيمي "الخديش، والمهربة" بحاجة عاجلة اليوم للمساعدات قبل وقوع كارثة إنسانية أشد.

ووفق الراجحي، فإن "المجاعة باتت تزحف بصمت وتحصد أرواح الضعفاء واحدًا تلو الآخر، وإن الطفلة أشواق ليست الأخيرة؛ فهناك مئات الأطفال والكبار مثلها ينتظرون الموت بعد أن فقدوا الأمل في وجبة لم تأتِ أو دواء مفقود".

وفي ظل ما تمارسه المليشيا الحوثية من نهب منظم للمساعدات، والتسبب في إيقاف العديد من المنظمات أعمالها في المناطق المنكوبة بسيطرتها، يحذِّر الراجحي من ارتفاع أعداد ضحايا الجوع، قائلًا: إن لم يتحرك العالم اليوم فسنكتب غدًا عن مزيد من الأطفال الذين ماتوا وهم يحلمون بلقمة أو جرعة دواء. لافتًا إلى أن "هذه ليست أزمة مؤقتة بل كارثة إنسانية تهدد آلاف الأرواح وتحتاج إلى صرخة ضمير قبل أن تصبح المخيمات مقابر جماعية".

في حجور، القصة لا تختلف كثيرًا، فقد أطلق رئيس رابطة ضحايا حجور، محمد السعيدي، نداء استغاثة لإنقاذ سكان المنطقة من تفشي الجوع والكوليرا، في ظل غياب أي تحركات للسلطات المحلية المعيّنة من جماعة الحوثي.

وأشار السعيدي في سياق حديثه لـ"وكالة 2 ديسمبر" إلى أن مأساة الجوع التي تطارد النازحين في محافظة حجة تمتد إلى كل المديريات؛ ففي قرية "قرايات" بمديرية حجور تتفاقم المجاعة في ظل حصار خانق تعانيه المنطقة منذ اقتحام مليشيا الحوثي لها.

ولفت إلى أن ما تعانيه المنطقة من حصار خانق، أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية، ودفع بعض الشباب إلى المخاطرة بحياتهم بحثًا عن لقمة العيش، حتى لو كان ذلك في باطن الأرض.

تسببت "سياسة مليشيا الحوثي اللا إنسانية وعراقيلها الهادفة إلى تجويع أكبر قدر من اليمنيين وحرمانهم من لقمة العيش، في توقف المنظمات الإنسانية عن العمل في تلك المناطق وتقديم المساعدات الإغاثية للنازحين"، بحسب السعيدي.

ويؤكد السعيدي انعدام "أي شفافية في توزيع المساعدات"، من قِبل المليشيا الحوثية التي تقوم بالاستيلاء على الغذاء وبيعه في السوق السوداء وتخصيص جزء منه لمقاتليها، فيما تترك المواطنين يواجهون مصيرهم.

المحامي هادي وردان، القائم بأعمال مدير مكتب حقوق الإنسان في محافظة حجة لـ"وكالة 2 ديسمبر"، يرى أن ما حصل مع أشواق ليس سوى جزء مما يحدث في العديد من مخيمات النازحين في المحافظة.


وأكد أن كل زاوية من مديريات المحافظة تروي كل يوم فصلًا جديدًا من فصول المعاناة الإنسانية، جراء ما تقوم به مليشيا الحوثي الإرهابية من نهب واستحواذ لكافة أنواع المساعدات، مشيرًا إلى أنها تتاجر ببعضها والبعض الآخر ترفد به جبهاتها تحت مسمى المجهود الحربي، غير أبهة للنازحين الذين يموتون كل يوم تحت وطأة الجوع، ومن بينهم الطفلة "أشواق".

ولفت إلى قيام المليشيا الحوثية بإطباق الحصار على الآلاف النازحين، لا سيّما في المديريات المحررة، من بينهم أكثر من 30 ألف نازح يعيشون في مديرية حيران تحت حصار المليشيا الإرهابية، مضيفًا: "لقد تحولت حياتهم إلى ما يشبه سجنًا مفتوحًا، حيث يُحرمون من أبسط حقوقهم الإنسانية، ويعيشون في ظروف إنسانية قاسية تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة".

هذا الحصار الجائر- وفق "وردان"- انتهاك صارخ لكل المواثيق والأعراف الدولية، ويكشف عن الوجه القبيح لهذه المليشيا الإجرامية، التي "لا تتوانى عن استخدام التجويع والحرمان سلاحًا ضد المدنيين".

ودعا القائم بأعمال مدير مكتب حقوق الإنسان في محافظة حجة لـ"وكالة 2 ديسمبر"، المجتمع الدولي إلى التحرك العاجل والجاد لوضع حد لهذه الفظائع التي ترتكبها المليشيا، وحماية المدنيين الذين يدفعون كل يوم ثمن صمت العالم وتهاونه.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية