مسيحنا الذي صلبناه في 3 يونيو 2011
قليل في حق علي عبدالله صالح كل ما كتبه الكاتبون وما سيكتبون.
3 يونيو 2011 تاريخ حفظ لنا عنه كلمتين: "أوقفوا النار"، ترددت من فمه الدامي ودخان العبوات الناسفة لا يزال يصعد من جسده المحترق المثخن بالجراح.
لم تمنعه شظايا منبر جامع الرئاسة التي اخترقت رئتيه من اتخاذ قرار حاسم بعدم الثأر، ووقف أي تصعيد قد يفضي إلى حرب أهلية تحرق الأرض التي نبت منها وتذهب بشعبها إلى الهاوية.
في ذلك اليوم ابتهج أناس فقدوا الإنسانية ورقصوا وذبحوا الأضاحي والقرابين محتفلين بخيبة تاريخية وانتهاك غير مسبوق للدماء المعصومة وحرمة بيوت الله.
الموقفان يكشفان لنا التناقض بين شخصية الزعيم صالح وأعدائه، بين من يريد السلام ومن ينشد القتل والفناء.
من حاولوا تغييب صالح عن مجرى الأحداث كانوا قد وصلوا إلى طريق مسدود أمام عناده في تجنيب البلاد شروراً مفتوحة الاحتمالات.
لقد أدركهم اليأس تجاه مرونته وسعيه لامتصاص موجة "الربيع العربي" والعودة باليمن إلى ربوع الاستقرار السياسي عبر اتفاق شامل لنقل السلطة بدلاً من تركها ورقة ممزقة في مهب الريح، وهو ما حققه لاحقاً وفشلت الأطراف في الحفاظ عليه.
أياً كانت الأصابع التي دست العبوات الناسفة في قبلة الجامع وداست زر التفجير أثناء سجود المصلين.. تبقى محاولة الاغتيال الآثمة تلك نقطة تحول كبير في الشأن اليمني.
والرسالة منها كانت واضحة: "لا مكان لصوت العقل والحكمة"، وكان المطلوب أن يأتي الرد انتقامياً دموياً يرضي طموح القتلة وزارعي الفتنة.
إعادة ترتيب الأحداث في تلك السنة المشؤومة يبدو للكثيرين مسألة هامشية طالما أن الرجل قد ارتقى شهيداً وتحملت مليشبا الحوثي بعدها ببضع سنين وحدها وزر سفك دمه الطاهر.
لكن واقعنا المزري اليوم والذي سبق له أن حذرنا من وقوعه بات يحتم علينا إجراء هذه المراجعة إذا أردنا حقاً معالجة هذا الواقع المؤلم بدلاً من الاختباء وراء الذرائع والأعذار.
الذين شيطنوا علي عبدالله صالح وفسروا قراراته في 2011 أنها مناورات للتشبث بالسلطة والآخرون الذين وقفوا على الحياد ومعهم الذين استفادوا من تقلبات الأوضاع ودخلوا الصورة في هيئة منقذين مفتوحي الشهية على المكاسب الرخيصة... كل هؤلاء شاركوا في إسقاط الدولة وهيبتها إلى أجل غير مسمى.
لقد هدموا أساس الحياة السياسية في اليمن، ودشنوا بإصرار سوق الارتهان للخارج، وتعددت بهم السبل، وافترقوا بلا أمل للقاء قريب أو بعيد..
ما جرى بعد ذلك التاريخ لم يكن إلا تحصيل حاصل.. الشقوق اتسعت مع الأيام ولم تفلح في ترميمها تنازلات صالح المتوازنة ولا توقيعه على المبادرة الخليجية للتخلي عن السلطة رغم أنه الرئيس الشرعي المنتخب والقائد الأعلى لجيش قوي متماسك واحد الولاء.
لقد استشهد علي عبدالله صالح فعلياً في 3 يونيو 2011 وما تبقى منه بعدها إلا نموذج حي لمسيح آخر حمل أوزارنا وخطايانا لكنه ظل يهدينا إلى سبل السلام والتعايش فيما بيننا. ومهما تكالب الكافرون به وبدعوته سيبقى صوته خالداً ودعوته كذلك حتى نستجيب ونؤمن بها حقاً وصدقاً بعيداً عن الأهواء والمصالح الضيقة.
حينها فقط سنستعيد حياتنا وبلادنا وكرامتنا ودولتنا، وما دون ذلك ليس إلا إضاعة للوقت في غياهب الكفر بالوطن والشعب والثورة والجمهورية.